الرسول صلى الله عليه وسلم وحقوق الإنسان
حقوق الإنسان
كثر الحديث في عالمنا المعاصر عن حقوق الإنسان، واتخذ العالم يوما خاصا سماه يوم حقوق الإنسان، وذلك على الرغم مما يعانيه البشر في جوانب متعددة في أرض الله من الإذلال والتشريد والقتل، وإهدار للكرامة الإنسانية، وتحكم القوى العظمى في مصائر الأمم والشعوب، وممالأة المعتدين والمغتصبين، وإغماض العين عن صنوف المعاناة التي يواجهها بنو الإنسان في مناطق مختلفة من العالم.
لأن المعتدي يوافقهم في الدين، والمعتدى عليه ليس على ملتهم، وأصدق مثل لذلك ما وقع، ويقع في بلاد المسلمين المختلفة، مما يدمغ هذه القوى بالخديعة والنفاق واسترخاء الأعصاب، كأن ليس هناك أنفس تزهق، وبيوت تهدم، وأعراض تنتهك، وشعوب تواجه الموت والدمار. ثم تحرم من الحصول على سلاح تحمي بها نفسها، وتدافع به عن كيانها.
عدوان على القيم
أرأيت ظلما أبشع من هذا الظلم، وتنكرا لقيم الحق والعدل والإنصاف أمعن في الضلال والتضليل والخداع أعتى مكرا من هذا الذي يقع تحت سمع العالم وبصره، وعلى مرأى منه، بل وحماية من الأمم المتحدة للعدوان على شعب مسلم يريد أن يعيش حرا على أرضه آمنا في سربه.
هؤلاء المسلمون الذين يواجهون كل هذا العدوان على القيم الإنسانية هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي رد للإنسان كرامته، وحفظ عليه إنسانيته، ونادى بحقه في الحرية والحياة الكريمة، وكم عمل جاهدا حتى يحقق للضعفاء أمنا وسلاما نعموا بهما، وذاقوا طعم الحياة الكريمة في ظل القيم والمبادئ التي أرسى الإسلام قواعدها ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا***منه وما يتعشق الكبراء
لو لم تقم دينا لقامت وحدها****دينا تضيء بنوره الآلاء
زانتك في الخلق العظيم شمائل***يغرى بهن ويولع الكرماء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى***فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخير ملة********ما اختار إلا دينك الفقراء
الحق في الحياة
هذه اللمحة النورانية التي حبا الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ردت الكرامة الإنسانية على قوم أفقدهم الظلم إياها، وسلبهم نعمتها، وأعادت إليهم الإحساس بقيمتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة التي لا تعرف تمييزًا بين البشر بسبب جنس أو لون أو لغة، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب.
لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلى بالتقوى والعمل الصالح، وإن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، والتقوى والأعمال النافعة للأمم والأفراد هي مناط التقدم عند الله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات: آية 13.
والله وحده هو الذي تخضع له الرقاب، وتعنو له الجباه، والناس جميعا أمام الحق سواء.
الله فوق الخلق فيها وحده***والناس تحت لوائها أكفاء
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمح لنزعة التعالي والعنصرية أن يذر قرنها، بل كان يواجهها بكل حزم حتى يقتلعها من جذورها، ولذلك لما سمع أبا ذر يعير آخر بسواد أمه بدا عليه الغضب الشديد، وقال له مقرعا ومعبرا عن ضيقه بهذه النزعة المقيتة: طف الصاع طف الصاع، إنك امرؤ فيك جاهلية، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل، ونزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات: آية 11.
نزعة التعالي
ولما طلب بعض الزعماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسا خاصا لا يشاركهم فيه الضعفاء والفقراء نزل القرآن ينهى عن الاستجابة لهم، ويطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه على الجلوس إلى الضعفاء والفقراء، لأن نزعة التعالي هذه يمقتها الإسلام، ويؤكد الأخوة الإنسانية العامة، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف: آية 28.
كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا فذا في التاريخ الإنساني كله، لم تعرف الدنيا مثلا فريدا في سمو الخلق واستقامة السلوك وحسن المعاملة كما عرفت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فاضت بها الأخبار، ورواها من خالطه وتعامل معه وسجلتها كتب السير على ألسنتهم إعجابا بما رأوا، وما لمسوه من نبل الأخلاق، وكرم المعاملة، ولا غرو في ذلك، فالله سبحانه قد أثنى عليه في كتابه الكريم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم: آية 4، ووصفه بالرحمة ولين الجانب والتواضع، والبعد عن الجفوة والخشونة بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: آية 159.
دعوى للطهر والنقاء
وإن الدارس لحياة النبي صلى الله عليه وسلم حينما يجد هذه العظمة التي لم تعرف البشرية لها مثيلا، والتي كانت سمة واضحة تبدو جلية في كل تصرفاته وأقواله وأفعاله، حينما يرى ذلك يتساءل من أين اكتسب -صلوات الله وسلامه عليه- هذه الشمائل المضيئة؟، هل جاءته من البيئة المحيطة به، والتي نشأ فيها؟ وهل ورثها وتلقاها عن والديه؟.
حينما يحاول المرء أن يجد جوابًا عن هذه التساؤلات يجد أن الجو العام الذي نشأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمثل مجتمعًا بعيدًا كل البعد عما اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مُثل وأخلاق، وحسبك لتعلم ذلك أن تلقي بسمعك لما قاله جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي يصف ما كان عليه المجتمع قبل دعوته -صلوات الله وسلامه عليه- من ظلم وضياع للحقوق وفقدان للأمان، واستغلال القوي للضعيف، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من احترام الإنسان، ورد لكرامته الضائعة، وحماية للضعفاء من عسف الأقوياء، ودعوى للطهر والعفاف والنقاء، وإصلاح للعقائد، واحترام لعقل الإنسان وتقدير له في قوله:
"أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى إله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا...
وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاءه من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك".
هكذا صور جعفر رضي الله عنه حال المجتمع قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ووضع في مقابل ذلك ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إصلاح للعقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملات، وبخاصة حماية الضعفاء من ظلم الأقوياء.
فهل يعتقد أن بيئة هذه سماتها يكون لها تأثير إيجابي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، إذن فليس للبيئة أثر في هذا السمو النبيل في الأخلاق التي تحلى بها -صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا عرفنا أن أباه مات وهو جنين في بطن أمه، وأن أمه ماتت وهو في سن السادسة أدركنا أيضا أن ليس لهما توجيه في حياته، إذن فمن أين جاء ذلك لنبي الرحمة والهدى؟؟!
الإجابة ببساطة شديدة تأتي في آية قرآنية -من لدن حكيم خبير- جامعة لكل معاني الرحمة لبني البشر أجمعين؛ هي قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107) إذن فهي رسالته صلى الله عليه وسلم.. نعم تلك هي الإجابة.